بين جدار الفصل وطرقات العذاب الملتوية يكتب تاريخ حكام المرحلة
يمنات
أنس القباطي
حين كنا نخترق الثغور ونتجاوز الحدود..
كنا اثنين، وثالثنا الكاميرا، اما دفتر المذكرات فكان رابعا، فيما القلم ملحقا بما قبله، إلى جانب ادوات اخرى حسب ما تقتضيه الحاجة..
كنت انا وصديقي الجغرافي المتمكن خلدون المقطري، نلتقي في حي فرزة صنعاء، الواقع بين قصر الشعب من الجنوب، ومعسكر الامن المركزي من الشمال، ومنه ننطلق نحو جبل سوفيتل وحي الحوبان، شمال شرق وشرق مدينة تعز.
صديقي الذي ودع
صديقي خلدون ودع الحياة بقلب لا يكره ونفس لا تعرف الضغينة في 11 فبرائر/شباط 2024، تاركا في نفسي غصة لن تفارقني، وجروح لن يشفيها الزمن.
كان خلدون يساعدني في استكمال الدراسة الميدانية لرسالة الماجستير الموسومة بالمحددات الجيومورفولوجية للتوسع الحضري لمدينة تعز.
سيرا على الاقدام
من فرزة صنعاء حيث سكني كنت وخلدون الذي يقيم في حي الكوثر ننطلق نحو جبل سوفيتل وحي الحرير، سيرا على الاقدام في وقت لا يتجاوز العشرين دقيقة. كان ذلك في العام 2013. ومن نفس النقطة كنا ننطلق ايضا نحو حي الحوبان بحاراته المتعددة والمتباينة طبوغرافيا، والمتداخلة في تبعيتها الادارية بين مديرية صالة التي تتبع النطاق الاداري لمدينة تعز، ومديرية التعزية التي تعد الريف المحيط بالمدينة.
دقائق الامس
وفي دراسة الحوبان التي امتدت على ما اظن 6 اسابيع تنقص او تزيد ببضعة ايام، كان تحركنا مشيا على الاقدام او على وسائل المواصلات العامة، حسب قرب او بعد المكان المستهدف بالدراسة، في الاولى كنا نمشي سيرا على الاقدام نصف ساعة او يزيد بحدود عشر دقائق، وعلى الباصات لا يتجاوز الوقت ربع الساعة مع الاخذ في الاعتبار التوقف المتكرر للباص لنزول وصعود الركاب.
ثغور وحدود اليوم وجدار الفصل
خلال هذا الوقت القليل كنا نخترق الثغور ونتجاوز الحدود التي صنعتها اليوم سلطات حرب متناحرة، حولت جغرافية المدينة ذات الشكل الاميبي إلى كنتونين متناحرين، يفصلهما جدار من رمل واسلاك شائكة والاف الالغام التي زرعت في نطاق جغرافي ضيق يمتد من عقبة منيف التي تصل شمالا إلى بداية شارع مستشفى الثورة، ومنها شرقا إلى جولة القصر، حيث ينتصب حاجز رمل ضخم فصل شرق المدينة عن وسطها وغربها، عن شمالها وجنوبها، فصارت مسافة النصف والربع ساعة اكثر من 6 ساعات تحتاج فيها لسيارة تستطيع الحركة على الطرق غير المعبدة، في رحلة شاقة تقطع فيها طرق ملتوية تهبط وتصعد في اربع مديريات، وخلالها تهبط وتصعد الانفاس قبل ان تتوقف السيارة في بئر باشا غرب مدينة تعز المنكوبة بالحصار وامراء الحرب الذي لا يفقهون في شيء غير الاتاوات والجبايات.
رفاقنا الذين اغرقتهم الحرب
رفاقنا انا وخلدون – الكاميرا، دفتر المذكرات، القلم، وغيرها- اغرقتهم الحرب في وحولها الوسخة، ولا اعلم عن مصيرهم منذ خروجي القسري مع اسرتي من منزلي في حارة الزهراء ليل 4 مايو/آيار 2015، تلك الليلة التي حولها القصف الجوي إلى نسخة من اهوال يوم القيامة، فالكهرباء مقطوعة وانفجارات صواريخ القصف الجوي تصم اذاننا، فيما كان الضغط الناجم عنها يفتح الابواب والنوافذ المغلقة، ومعها كان الزجاج يتناثر علينا، وبعض النوافذ ومن شدة الضغط نجدها حولنا او جوارنا، ومن الخارج تأتي اصوات عويل نساء ورعب رجال وبكاء اطفال مخلوطة باصوات انهيارات مباني، ومن بينها تسمع خرير خفيف لمياه تنزف من الميازب بعد ان مزقت شظايا الصواريخ الخزانات التي تنتصب على اسطح المباني.
ليلة من اهوال يوم القيامة
لحظتها لم يكن احد يجرؤ على السؤال عما يحدث في الخارج، او حتى مجرد التفكير في القاء نظرة عبر كوة صغيرة لاستطلاع ما يجري، لان كل هدوء يتبعه قصف اعنف، حتى خيل لنا ان القصف سرمديا، ليلتها احصيت 6 انفجارات ولم اعد اهتم بما بعدها، كنا خمسة محشورين في زاوية شمالية من صالة المنزل، ثلاثة منهم أطفال خائفين ومرعوبين. إلى امامنا كانت تصل قطع من زجاج النوافذ، وشفاط المطبخ المجاور، وقطع اخرى من بقايا قمرية اجبرها الضغط على الهروب نحو وسط الغرفة، لتتحول إلى قطع صغيرة غير مستوية الحجم.
ما بعد الجحيم
وبعد قرابة ربع ساعة من توقف القصف خرجنا من مخبائنا، ولم نجد غير غبار يملى المنزل مخلوط بطنين البعوض الذي لا نعلم من اين بلاد قدم، وطنينه يشي بانه مرعوب مثلنا. في قاع الغرف يتناثر الحطام، وحبات الزجاج المتناثرة تعيق الحركة والتنقل، في ظل ضوء الشمعة الخافت. حالة فوضى غير مسبوقة لم تكن موجودة قبل ساعة في منزل تحول إلى مسكن للبعوض ومكب للحطام والعوالق الترابية.
قرار المغادرة
هذا الحال الذي تغير خلال ساعة، وبعد تشاور قصير مع الجيران تخللته مداخلات بسيطة بيننا من الاحواش والنوافذ والشرفات، اجمع الجميع تحت ضغط الخوف على المغادرة في منتصف ليل حالك السواد لا يزال فيه الجميع مرعوبين من تجدد القصف الجوي، وسط سماع اصوات تحليق للطيران الحربي التابع للجارة الكبرى التي لا ياتي منها إلا المأسي، لم نحمل شيئا سوى حقائب صغيرة فيها بعض الملابس والاغراض المهمة، لان المغادرة كانت مشيا على الاقدام وفي ليل دامس، وكل ذهب إلى قريب له في منطقة يعتقد انها آمنة.
العودة القريبة طالت
غادرت حارة الزهراء إلى جولة القصر، وكلي امل ان اعود قريبا إلى منزلي، لكن القريب الذي كنت اراه صار بعيدا، ومرت 9 سنوات، وما زال القريب بعيدا، وكل ما استودعته في المنزل لا اعلم عنه شيئا، شاني في ذلك شأن جيراني، لنصبح جميعا نازحين، ومن نزوح إلى نزوح، نعيش قصص مآسي تحكي حال شعب قامر بمستقبله من يطلق عليهم حكام، وهم في الحقيقة امراء حرب، ينتمون لسلالة العصابات التي تنحدر من فصيلة “انا او الطوفان من بعدي”.
الخوف الذي تجدد
من اليوم الاول لنزوحنا صعب علينا دخول حارتنا التي تحولت إلى نقطة اشتباكات ساخنة، في مداخلها تنتشر المتارس، وعلى مبانيها تنتشر كائنات الموت، انتظرت اسبوعا على امل ان اتمكن من العودة إلى منزلي ليس للاستقرار، وانما لنقل ما يمكن اخراجه، لكني فشلت. وصلت الحرب إلى حيث اقيم مؤقتا، وعلى نحو غير متوقع استهدفت غارة ليلية التبة التي يقع المنزل الذي اقيم فيه اسفلها، فتساقطت صخور وهشيم مخلوط بالتربة، فكان نصيب منزل نزوحنا صخرة متوسطة تجاوزت النافذة إلى الداخل. عاد الخوف والرعب ليسطير على تفكيرنا مرة اخرى، بعد ان كنا نظن اننا في مامن، وتحت ضغط الخوف من تجدد الغارات، بدانا بتجهيز انفسنا لرحلة نزوح طويلة، ولكن هذه المرة نحو الريف في جبال القبيطة الواقعة بين محافظتي تعز ولحج.
مآسي خلفتها الحرب
قطعت طريق الحوبان حوض الاشراف وتبدد الامل بالعودة، قتل من قتل ممن فضلوا البقاء في الحارة، ومات البعض في مناطق النزوح، تدمرت العمارات ونهب اغلبها، واحترق البعض الأخر، قتل طيب القلب عبد الرقيب القدسي برصاصة قناص اثناء محاولته الوصول إلى سوق قرب مستشفى الثورة عبر جبل الشماسي، وقتل الاخوين محمد وجلال صالح علي العوذلي، قتل ايضا محمد فؤاد، وتوفى حبيب الكل طيب القلب عبد الله الشواحي في عدن، وهو يحلم بالعودة إلى تعز التي احبها منذ نزح إليها عقب احداث 13 يناير/كانون ثان 1986. صنعت الحرب قصص بؤس ومآسي باخربن، اما انا فقد لاحقتني الحرب إلى قريتي وسط جبال القبيطة، فاصبحت اليوم نازحا في صنعاء.
حارة الاشباح
تحولت حارتنا إلى حارة اشباح، طرقها مقطوعة بهياكل السيارات، وازقتها تحولت إلى متارس، تنتشر فيها اكياس الرمل، متاجر مفتوحة الابواب بسبب الضغط الناجم عن انفجارات صواريخ القصف الجوي، وشقق مهجورة، واكوام طين جلبت الى الشوارع لقطعها، فنبتت عليها الاشجار، ورغم الظلال الوارف الذي صار سمة الطرقات، إلا ان لا حياة فيها للعام التاسع على التوالي.
الشارع الذي تحول إلى احراش
اما الشارع العام الذي يربط حوض الاشراف بالحوبان، لم يعد شارعا، حيث اصبح اليوم احراش من الاشجار التي نبتت وسط الشارع وعلى جوانبه. لكن هذه الاشجار هي الحياة الوحيدة في هذا الشارع الذي لم تعبر فيه سيارة واحدة منذ قرابة 9 سنوات، فحتى الكلاب هجرته بعد ان سقط الكثير منها برصاص كائنات الموت، وبعضها غادر مرغما تحت وطأة الجوع وقرقرة الامعاء، اما الطيور فلا تتوطن مكان يقطن الموت حوله.
الطريق الذي كان
الطريق الذي كنا نعبره متى اردنا، صار الموت ثمنا لعبوره اليوم، وان كان بعض المارة يعبرون طرق ضيقة بين العمارات هروبا من الطريق الملتوية عبر خدير وشرق صبر وسامع، فإن مخاطر الالغام تتربص بحياتهم ان حادوا عن الطريق المرسومة لهم، والتي لا تتجاوز مساحة حذاء، وحتى ذلك الظلال الوارف الذي يمتد قرب الطريق صار موقوفا للموت، فالالغام تتربص بالمارة في كل زغط، او تفرع طريق، وان فات منها المغامر، فلن يسلم من رصاصة قناص باع نفسه لامراء الحرب، الذين سلخوه من جلدته البشرية ليتحول إلى مجرد كائن حقير لا علاقة له بالانسان الذي وجد ليعمر الارض.
هنا يكتب التاريخ
طريق الحوبان حوض الاشراف مأساة رسمتها الحرب، وجدار فصل بناه بشر، لا علاقة لهم بالانسانية، قصة هذا الجدار ستحكي للاجيال القادمة قبح الحرب ودمامة امرائها وبؤس مرحلة ضاع فيها كل جميل، فيها تباعدت اسفارنا رغم قرب المسافة، وطال نزوحنا رغم ما رسمناه من اماني العود القريب. تحولت حياتنا إلى بؤس ومعاناة يومية، بسبب جشع من صار إليهم امرنا. ستقرأ الاجيال القادمة ان طريق اغلقت ولغمت ونشر حولها الموت لسنوات دون وجود مبرر منطقي لاغلاقها، ستقرأ الاجيال القادمة ان جدار من رمل سد به الشارع وقربه ذرفت دموع مالحة من الحزن والاسى بمجرد تذكر مسافر انه كان يعبر المكان متى شاء وانى اراد، تخيلوا معي كيف ستذكركم الاجيال القادمة، هل سيقولون عنكم الحكام قطاع الطرق، ام الحكام الذين فرقوا بين الاقارب بقطع الطرقات، ام الحكام الذين قطعوا الطرقات وفخخوها بالالغام، ام حكام الجبايات وقطع الطرقات، او حكام قنص الناس في الطرقات المغلقة. ستكونوا محظوظين ان اطلقوا عليكم مسمى حكام، الارجح ان ينعتونكم بلفظ اخر. فماذا انتم فاعلين. هل من منظف للسمعة التي تلطخت..؟!